٠٩ يوليو ٢٠٠٦

صليب كل يوم

في البدء كانوا يأتونني في النوم.

أراهم يبكون تارة ويصرخون في غضب تارة. يعيدون علي نفس الكلام بصور مختلفة وكأنني لا أفهم! أفهمكم والله أفهمكم وينفطر قلبي لآلامكم! لكنكم مجرد شخصيات في روايات وكتب. وُجَدتم بالفعل أو لم توجَدوا وكنتم حقاً على حقٍ أو لم تكونوا، هذا ليس الموضوع! ولا يهم إطلاقا! فأنتم الآن لستم هاهنا! آلامكم وأحلامكم لم تعد موجودة، فماذا تريدون؟!

ثم جاءوني في وضح النهار...

بينما كنت منهمكة في قراءة تلك الرواية البديعة تسللوا وخرجوا منها في هدوء وساروا محملين بهمومهم وحكاياتهم والآلام. سافروا وعبروا الحدود والأزمنة حتى وصلوا إلى باب شقتنا. دقوا على الباب ولم ينتظروا الرد ولم ينتظرني الباب... انفتح لهم على مصراعيه وكأنه كان يعلم بمجيئهم وينتظرهم. دخلوا ووقفوا ثوان يتأملون المنزل ويحدد كل منهم وجهته..

ثم انطلقوا.

اتجه قائدهم بخطوات هادئة واثقة نحو حجرة نومي ثم استلقى على فراشي وجسده يتصبب عرقاً ودما وأحزان. سارت خلفه مجموعة من النساء في ثياب مهلهلة ورجال أشداء يلملمون جراحهم ويلعقونها لبعضهم البعض كالقطط الضالة. عرفت منهم قصتهم وعرفت أنهم قد عادوا لتوهم من كل المعارك، ذائقين كل أنواع الذل، ناصرين كل ذي حق، مرفوعي الرؤوس، منكسي الأعلام... وأحضروا معهم كل من صادفهم في طريقهم من أناس يشبهونهم. دخلت وراءهم وضمدت جراحهم جميعاً. مسحت أقدامهم بدموعي وجففتها بشعري وكان القائد يراقبني بعينين متعبتين لا تخلوان من عزيمة، حتى انتهيت فناداني... جلست تحت قدميه ووضع يده على رأسي ثم تنهد.. وتبسم. رفعت عيني لأتأمل وجهه حتى أتمكن من وصفه فيما بعد ... فكان السيد المسيح عيسى بن مريم وكان محمدا بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، محارب عائد بجيوش المظلومين في الأرض ينظر إليهم في حنو وتحثهم عيناه على الصبر والجلد.

أما القساوسة والشيوخ فكانوا قد توجهوا إلى غرفة المعيشة وأخذوا راحتهم بعد انتهائهم من تفتيش المنزل. صادروا النبيذ والكتب وجلسوا يعبثون بسبحهم وصلبانهم الذهبية وانقسموا على أنفسهم في مجموعات وانتشروا في كل أركان المنزل.

ألقيت عليهم نظرة لا مبالية ولم ألق السلام.. فقد كان قلبي منشغلاً بآخر المدعوين. لم أره يدخل من باب الشقة ولم أجده في أي مكان.. لكنني كنت أعلم أنه قادم لا محالة فجلست في انتظاره بذراعين متأهبتين.

كم كنت ساذجة بلهاء! انتظرت وانتظرت وبحثت عنه في كل مكان! ولم أدرك طوال هذه السنوات أنه كان حبيسا مسجونا يرجوني أن ألحظه! يراهن على ذكائي وينتظرني! وكم كان رحيما غفورا عندما وجدته بداخلي! كان رحيما، غفورا، عادلا، كريم...

كان متربعاً في قلبي ينتظر دموعي لترويه... تفتح في قلبي رويدا رويدا فصرت أراه في كل شيء.
رأيته زهورا وبحارا وسماء،
ورأيته سلاحا في يد رجل يدافع عن أرضه،
كان عيونا تبكي الشهداء،
وكان الحق الواضح الذي لا يفرض نفسه،
كان نفسي التي طالما اشتقت إليها..
وكان جميلا يحب الجمال...

ركضت نحو منزلنا لأخبرهم جميعاً وأحررهم من سجونهم وشكوكهم. أردت أن أُعلِمهم أنني الآن أعلم أنهم موجودون. أعرف أنهم هنا وأرى آلامهم وأحلامهم! أردت أن أطمئنهم أنه هو أيضاً موجود وأنه في كل مكان! وأنه قادم! قادمٌ لا محالة!

وعندما وصلت وجدتني كما تركت نفسي على كرسيٍ وحيدٍ في ركن الصالة أقرأ آخر صفحة في الرواية. أتباطأ حتى لا أنتهي منها. أتباطأ حتى أفهمها. أتباطأ حتى لا أصل إلى نهايتها فأفهمها. لا أريد أن أفهمها! لا أريد أن أراهم يرحلون!

انتهت الرواية ودقت أجراس الحداد...

فالأحباب جميعا، قد صلبوا على نفس الصليب. كلهم صلبوا! وكل يوم يصلبون... وينتقلون إلى الرفيق الأعلى.. ويقام العزاء بجوار منزلنا بميدان الثورة.. كل يوم.

____________
* كتبت فور انتهائي من قراءة رائعة كازانتزاكيس "المسيح يصلب من جديد"

هناك ١٣ تعليقًا:

Unknown يقول...

دايما كنت مؤمنة بالفكرة دى انه ربنا موجود وجوايا ....
دايما كنت بقول ان ربنا بيحبني
رغم الشرايط اللى بتصرخ بالتهديد والوعيد
والبنات اللى بيطلعوا المترو يصرخوا ويقولوا الحجاب وترك اللذات والشهوات
مكنتش بلاقي ربنا ف كل كلامهم ومواقفهم ونصايحهم
وكنت باقابله جوايا
نص جميل قوي يا سمسم

عبد الحق يقول...

تفتح فى قلبى رويدا رويدا
وكان جميلا يحب الجمال

!ما أسعدك
!وماأسعدنى بك

bluestone يقول...

تدوينة من اجمل ما قرأت مؤخرا ..
حقا ان الله يوجد داخلنا .. كثيرا ما نبحث ونحاول جاهدين نتبع خطى اخرى يشوبها الكثير من المراسم والطقوس البالية والخوف والعقاب والموت .. ولكننا لا نجده .. بمرور الزمن خلقنا آلهتنا الخاصة وصرنا نعبدها ..

ابتدعنا صورة القدير داخلنا وصرنا نعبدها ,, فصرنا نعبدا انفسنا حقا ..

لي صديق يقول دائما كلما تعمقت في بحثك عن ذاتك كلما عرفت الله .. وحينما تعرفه تعرف ذاتك لانه داخلك ..
متحد بك ,, لا يجد في المباني والصور والعباءات والعمم .. مكانه القلب .. فلا داعي للبحث عنه خارج تلك الحدود ..

تحياتي لمحاولتك الرائعة ..

قبل الطوفان يقول...

مأخوذاً بالنص بدأت أقرأ تلك المسيرة التي ينهض فيها هؤلاء الزوار من قبور آلامهم لينفضوا عن أنفسهم غبار التاريخ
وكلما غصت في النص أكثر كلما أعجبتني تلك الفكرة الجميلة التي تصنع عالمها الخاص
أحسنت.. كعادتك دائماً

سامية جاهين يقول...

عبد الحق العزيز
لولا تشجيعك الدائم وسعادتك هذه كلما كتبت شيئا جيداً لما كتبت حرفاً واحداً

جيرونيمو وبلوستون وياسر: واضح ان كل واحد ترجمها من ناحية معينة أو ركز على جزء معين. وده يسعدني جدا إن كل شخص يلاقي نفسه في ولو جزء صغير من الموضوع. وطبعاً سعيدة جدا انها عجبتكم بشكل عام
:)

صحيح يا حسام... فعلا لا أحد يرحل
:)

أُكتب بالرصاص يقول...

قرأت أول فقرتين ، ولضيق الوقت لم اكمل
ولكن حبيت اسجل تهنئتي واعجابي بالاسلوب

دي عايزة جو هادء للقراة وياريت والضوء مطفي
والهواء يأتي من الشباك يلفح الشاشة

بس بصراحة رائعة

M. El-Hajj يقول...

لا جدوي يا سيدي المسيح .. لا جدوي

القسيس فوتيس مستنيكي علي أول الشارع يا سامية

سامية جاهين يقول...

it's too late:
يا سيدي ألف شكر على حرصك على التعليق من فبل ما تخلصها. ربنا يستر بس وما تحبطش لما تكملها

لأ وانت الصادق يا زنجي القسيس فوتيس مستني في ميدان الثورة!
طب بذمّتك هش هو ده بالضبط الموضوع؟ الرواية دي بتقول كل حاجة! والواحد في الآخر بيكتشف ان المسألة بسيطة وواضحة زي الشمس

Unknown يقول...

جميل ان نحاول ان نجد الله داخلنا
فى زحمة وزخم الأشياء داخلنا
ولكن لماذا هذا الموقف ممن يحاولون ان يأخذوا بأيدينا إلى الوصول الى هذه المرحلة
فليس كل الناس مثلك
ولكن هناك من يحتاج دليلاً
لذلك
اسمعى قناة الناس
/ محمدحسين يعقوب
أو عم عبد الكافى على قناة الشارقة

واثق انك ستشعرى بذلك واضحاً
زورينى

layal يقول...

أتمني ان نتبنى جميعا كمدونين كلمه واحده بتاريخ واحد نحدد فيه رأينا للعالم اجمع
اتمني ان ندون مدونه واحد بتاريخ 27/07/2006
كلنا كمدونين نكرر عباره واحده
كلنا مع لبنان وفلسطين ضد اسرائيل والمحتلين
بالعربي بالانجليزي المهم نسمع صوتنا للعالم
وان لم نستطيع حمل السلاح فالنحمل الكلمه
ارجو النشر -تحياتي للجميع

عمرو عزت يقول...

جميل

سامية جاهين يقول...

شكرا يا عمرو


أبو أمل: مش هو ده الموضوع

ليال: من هنا ليوم 27 ان شاء الله

lastknight يقول...

مصريه جدا .. عميقه جدا ..
باختصار راااائعه
أتمنى أن تزورى مدونتى .. يشرفنى أن ارسل مدونتك لابنتى لتتعلم منك كيف يكون الأيمان .. و كيف تكون الحياه ..
اشكرك على الروح التى بعثتيها فى قلبى