٢٧ نوفمبر ٢٠٠٥

طنط لبيبة.. الحبيبة

كنت أكره الاستيقاظ من النوم للذهاب إلى المدرسة، ليس لنفس الأسباب التي يعاني منها معظم الأطفال من الكسل أو عدم الرغبة في الذهاب إلى المدرسة ولكن لأنني كنت أصحو وحدي على صوت المنبه النشاز في بيت خال من أي حركة لا تدخله حتى الشمس لتؤنس وحدتي وأنا أغسل أسناني وأحدق في المرآة بلا مبالاة وضجر. لم ينتظرني كيس وُضعت فيه السندوتشات ولا زمزمية مملوءة بعصير البرتقال كباقي زميلاتي في المدرسة. لم تكن أمي تأتي معي لننتظر سويا أتوبيس المدرسة وندفئ أيدينا في أيدي بعض. لم تكن حتى تودعني قبل خروجي. فألفت الصوت المزعج لإغلاق باب الشقة وصرت أحبه كأنما كان هذا الصوت يعوضني عن جملة "مع السلامة يا حبيبتي .. خلي بالك من نفسك وماتنسيش تاكلي السندوتشات"

كل هذا تغير عندما تعرفت على فاطمة. جاء التعارف سلسا وسريعا. فمنذ أول يوم رأيتها تقف على الرصيف في انتظار الأوتوبيس ذهبت وتحدثت إليها وصرنا أصدقاء. علمت أنها تسكن تحتنا بثلاثة أدوار فصرت أمر عليها كل صباح لننزل سوياً مع أمها لانتظار "الباص".كانت أمها تودعنا بقولها "في حفظ الله يا نور عيني" ومن هنا جاء عشقي لكلمة "نور عيني" وصرت دائما أبتسم عند سماعها.

كانت فاطمة تشاركني سندوتشاتها وبسكوتاتها وعصائرها وكل ما كانت تشتهي نفسي... ولعل أمها لاحظت ذلك فصارت تحضر لي كيسا فيه نفس محتويات كيس ابنتها: 2 سندويتش + بسكوت ويفر محشو بالشوكولاتة - كان يذهب عقلي من جماله + علبة عصير وفي بعض الأحيان ثمرة فاكهة حسب الموسم.

فاطمأنت معدتي وفرح قلبي وظننت أن كل أحلامي قد تحققت وأنه لا سعادة تفوق تلك التي أضفتها طنط لبيبة إلى حياتي بكيس السندوتشات وأجمل ما في اللغة من كلمات حب ودفء.

كل هذا كان مجرد مدخل إلى العالم الوردي الذي وجدت نفسي فيه منذ أن سُمح لي أن أقضي فترة بعد الظهيرة أيضا في أحضان تلك العائلة الخيالية. نعم.. أقول خيالية لأنني حتى الآن لا أستطيع أن أصدق أنها كانت موجودة بالفعل بالرغم من وجود كثير من الصور والذكريات تثبت ذلك.

دعوني أحاول أن أوصف.. ربما استطاعت ذاكرتي أن تستعيد تلك الأيام التي قضيتها في الرسم واللعب والغناء والرقص والتحليق في فضاء جنة الأطفال كما يجب أن تكون.

كانت الحبيبة تفرش لنا الأرض بمشمع قديم وتكسوه بتلال من الأوراق البيضاء وكل أنواع الألوان والفرش والمقصات واللاصق وتتركنا لنفعل ما نشاء لساعات طويلة لم نشعر بمرورها قط. وكنا نخرج من تلك الغرفة ملطخين بالألوان من ساسنا لراسنا فتحملنا كالقطط الصغيرة بأطراف أصابعها لتلقينا في البانيو! في بعض الأحيان كانت تأتي لتعلمنا طريقة جديدة في التلوين أو التشكيل أو صنع حيوانات صغيرة من الورق، وأكثر لعبة بهرتني في تلك الفترة كانت الطباعة بالبطاطس. علمتنا كيف نقطع البطاطساية نصفين ثم ننحتها بسكين بأي شكل لتتكون صورة بارزة ثم نغمسها في الألوان ونطبعها على الورق مثل الأختام. لا أعرف لماذا استهوتني تلك اللعبة.. ربما لأنها كانت أكثرهم "لغوصة" حيث كان ينتهي الأمر بأن أصابعنا هي التي كانت تصبغ بالألوان ونستخدمها في تلطيخ ملابسنا بسعادة شيطانية، أو ربما لأنني أحب رائحة البطاطس النيئة. وجدت في نفسي في تلك الأيام كل المواهب... الرسم والغناء والرقص.. والكلام.

أدركت الآن أن كثير من الأشياء التي أحبها تعلمتها في هذا البيت... أولها مثلا الأفلام الموسيقية الاستعراضية "الميوزيكال" مثل "ماري بوبنز" و"صوت الموسيقى" و"آني" وأفلام الكارتون الكلاسيكية مثل "سيندريلا" والجميلة النائمة" و"سنو وايت والأقزام السبعة"... كنا أنا وفاطمة نحفظ الأغاني عن ظهر قلب ونذهب لنستعرضها على باقي الأطفال في المدرسة. تعلمت في هذا البيت أن الصوت العالي لا يُعَلِم شيئا ولا يربي طفلا وتعلمت أن الأطفال لن يموتوا من الجوع إن حرموا من الغذاء لقلة أدبهم أو رفضهم تناول نوع معين من الخضار وأن الذين يموتون من الجوع فعلا ويمرضون هم أطفال لا يتوفر لهم الطعام... تعلمت أن الابتسامة على وجه الأم لا يجب أن تؤخذ أمرا مسلما به بل هي رفاهية لمن عايشها وهي بالتالي نعمة يجب تقديرها...

افتقدتها كثيرا عندما عزلوا إلى منزل آخر وفقدنا الاتصال لكنني كل يوم أتذكرها وأبتسم عندما أمر بشقتهم أثناء نزولي للذهاب إلى عملي. ومازلت أذكر طريقة الطباعة والتلوين بالبطاطس وأنوي تعليمها لأولادي... لكنني مع الأسف لم أعد أرسم ولا أغني ولا أرقص.. وقلما تكلمت.

هناك ٢٠ تعليقًا:

حـدوتـة يقول...

جميلة جداً جداً يا سامية :)

أنا كمان ماما ماكانش ليها في السندوتشات المعقدة ولا الإضافات الغذائية....الجبنة الرومي أو البيضاء للأبد...وإحنا اللي كنا بنعمل السندوتشات لنفسنا كمان :) بس أنا ماكانش عندي طنط لبيبة للأسف...بس ماما في الأجازة كانت بتلم كل أصحابنا وقرايبنا وتودينا المتاحف والملاهي والسينما...يمكن علشان كده ما كناش بنعترض على تحضير لبسنا وأكلنا بنفسنا أيام المدرسة

لازم توعديني إنك تكوني طنط لبيبة لما نتدهول ونجيب عيال :) واللي تنسى تكون لبيبة التانية تفكرها :)

بوسة!

باسم شرف يقول...

هايلة يا سامية
حقيقي انا تعاطفت جدا مع الحكاية دي علي فكرة تنفع حكاية مسرحية ونسميها مثلا ( منبه سامية بيفكرها
)
انا حسيت الكلام
الجميل اننا نحي نفسنا مش نعبي سطورنا تحليلات فاسدة عن حياة الاخرين
عشان كده حكايتك صادقة
باسم شرف

سامية جاهين يقول...

باسم: لك مطلق الحرية إنك تاخدها تعملها مسرحية :) أصل دي لعبتك انت

أنا فعلا سعيدة انها عجبتك.. وشكرا لتشجيعك الجميل

رحاب: حاضر يا نور عيني
:)

shady يقول...

ما أجمل أن تجد نفسك
وأعرف جيداً كيف تضيع

Solo يقول...

توجع أوى آخر جملة خصوصا بعد الحنين اللى قبله

سامية جاهين يقول...

يا سولو الجملة الأخيرة وجعت فعلا وانا باكتبها لدرجة إني كنت بافكر أشيلها خالص. شكرا للتواصل

شادي: ساعات بيكون فيه شعرة رفيعة جدا ما بين "إيجاد النفس" و"الوهم الأعظم" :)

Unknown يقول...

رحاب
سامية
انا كمان عاوزاكوا لو مبقتش طنط لبيبة تفكروني
انا نفسي ابقة كده
طالما زمان
مقدرتش اكون غير كده
انا حبيت طنط لبيبة بجد

Pianist يقول...

حلو اوي
حلو الناس دول انا عن نفسي باسميهم ناس جُمال
مع ان فيه كتير بيعترضوا علي التسمية دي
جميلة طنط لبيبة وجميل موضوعك

حازم فرجانى Hazem Fergani يقول...

تدوينة تمس شغاف القلب برقتها و حساسيتها وأيضا واقعيتها الشديدة وكأنما تستطيع أن تلمس أشخاصها

3arousa 7alawa يقول...

أنا لما كنت بقرا "طنط لبيبة... الحبيبة" شفت الدنيا فاضية وأوتوبيس المدرسة هادي والصبح خريفي ومش عارفه ليه كان حميم قوي بالنسبه لي رغم إني معشتش التجربه دي لأن أمي كانت ومازالت تمارس دور طنط لبيبة.. لكن وصلني الشجن اللي في كتابتك وحسيتها أوي أوي لأن دور طنط لبيبة برضه كان فيه مشهد ناقص.
رغم كل المحاولات أنا وأمي مختلفين حتى النخاع.
ســـامية... أنا أعرفك
بس أكيد هعرفك أكتر

سامية جاهين يقول...

Geronimo:
اللهم أكثر من لبيبات هذا الوطن
:)

Pianist:
على فكرة بقى أنا كمان بحب كلمة "جميلة" دي جدا.. ولما بحب حد "من جوه" باقول عليه جميل. شكرا على تعليقك

Masry:
أنا سعيدة إن الشخصيات وصلت لك ولو اني باحس إني مهما وصفت مش حاعرف أدي للحبيبة حقها

3arousa:
مش ح تقوليلي طيب إيه المشهد اللي ناقص؟ شوَّقتيني

وأما بقى بالنسبة لموضوع الاختلاف أو الاتفاق مع "لبيباتنا" أو أمهاتنا ف ده عايزله رواية كاملة مش قصة قصيرة
:)

hesterua يقول...

أقول خيالية لأنني حتى الآن لا أستطيع أن أصدق أنها كانت موجودة بالفعل بالرغم من وجود كثير من الصور والذكريات تثبت ذلك.

هايل هايل
مليون برافوا انك قدرتى تصطادى الشعور ده و بالتعبير ده
كتير بحس بنفس الحالةدى واقول ده كان حلم و لا ايه
طب الناس دى فين دلوقتى
فكرة جميلة يا سامية استأذنك انى اكتب عنها فى المدونة
طنط لبيبة نموذج منتشر فى حياتنا ومنتهاش
مش هنسى اثناء فترة مركز التدريب بتاع الجيش كنت فى دهشور
ومحش جه يزورنى من بيتنا عشان المسافة الكبيرة لكن كان فى واحد صاحبى من الجيزة وكان معايا فى الكلية كان بييجى يزورنى وكان معاه اول مرة بالصدفة ام واحد من العساكر من اصدقاء صاحبى ده
وتم التعارف سريعا ومن يومها وطوال اربع زيارت (زيارة كل اسبوع)كانت الست زى ما بتجيب لأبنها تجيب ليا
علب جبن وتونة وبلوبيف
وانا فى نص هدومى مش عارف اعمل ايه
وطلبت رقم البيت عندى فى بورسعيد عشان تتطمن والدتى عليا
بجد حسيت عبق الأسرة المصرية اللى بيقولوا عليه

HERA يقول...

كان نفسى زمان فى طنط لبيبة اللى بتحكى عنها وكنت حاسسه انها حاجه كبيرة مش من حقى
بس أسلوب عرضك هايل وخلانى اعيشها بجد

3arousa 7alawa يقول...

المشهد الناقص هو إن طنط لبيبه رغم إنها لعبت دور الأم إلا إنها عمرها ما كانت أم وأمي رغم لعبها دور طنط لبيبه إلا إنها عمرها ما عرفت تسيب الأثر بتاع طنط لبيبة الحقيقية جوايا... فيه مشهد ناقص أنا مش عارفه أكتشفه... يمكن طنط لبيبه كانت صوره مثالية لأم عرفت تتخلص من طغيان الإحساس بالمسئولية على كل شيء جميل؟

Randomly يقول...

سامية،
عجبني جدًا تعبيرك "فاطمأنت معدتي وفرح قلبي"
يمكن لانك اثرت في احاسيس كنت قد نسيتها و عبرتي عن احساس شعرت به
أنا أيضا لما إطمأن قلبي لما لوالدة صحبتي في المدرسة أيام ثانوي و بعد وفاة والدتي لأحساسها بي
بأفرح جدا لما الاقي لفظ يستطيع أن يعبر تماما عما شعرت به .

سامية جاهين يقول...

يا أحمد.. مش عيب عليك طيب .. تونة وبولوبيف وجبنة! مش تعرفنا على مامت صاحبك دي حتى تطمئن معدتي مرة أخرى
:)
(يقطع الرجيم وسنينه!)

hera:
مش من حقك؟ ليه مش من حقك؟ أهي دي بالذات من حق أي حد وكل حد! وان ماكانش عندك طنط لبيبة.. لسه عندك فرصة تخلقيها وتشكليها على مزاجك
:)

أنا عملت كده


3arousa:
يمكن طنط لبيبه كانت صوره مثالية لأم" عرفت تتخلص من طغيان الإحساس بالمسئولية على كل شيء جميل؟ "

مش كنتَ تقوليلي الجملة دي قبل ما اكتب القصة..عاجباني جدا

و عاجباني حكاية المشهد الناقص دي
:-)
مدياني إحساس النهاية المفتوحة في أفلام السينما. بس انتِ كده بتدي القصة أكثر من حقها بكتير


egiziana:
سعيدة إنك لقيتي حاجة تعبر عنك في القصة


شكرا لتشجيعكم كلكم.. منوَّرين

3arousa 7alawa يقول...

هي فعلاً فيها نهاية مفتوحة.. وفيها أمل زي ماانتي قلتي... وقريب هكتب حاجة حسيتها أوي من حكايتك.. ده بعد إذنك طبعاً

سامية جاهين يقول...

3arousa
مش محتاجة تستأذني
:)

رحاب: حسابك معايا بعدين

radwa osama يقول...

مش عارفة بعد كل التعليقات ده اقول ايه..بس عندى رغبة فى التعليق .. جميلة يا سامية الكتابه ده وجميلة طنط لبيبة ..انا كمان احيانا بتمنى اكون زيها بس ما اعتقدش انى هعمل كده ..فكرتينى بريحة ساندوتشات المدرسة ووقفة الصبح بدرى فى الشتاء والدنيا ضلمة مستنيين الباص وريحة شامبو برت بلس ويوم الجمعة وحفظ تجارب العلوم و....... حاجات كتير افتكرتها لما قريت البوست ده .. شكرا بجد

سامية جاهين يقول...

حفظ تجارب العلوم؟ قلبك إسود أوي يا رضوى! ده انا تجاهلت ذكريات المذاكرة دي بالذات عن قصد
:)
بس عندك حق.. هو كله عالم واحد وتفصيلة بتجر تفصيلة وذكرى بتجر ذكرى.. ح تخليني دلوقتي اروح اكتب عن مدرس الحساب!