كل هذا تغير عندما تعرفت على فاطمة. جاء التعارف سلسا وسريعا. فمنذ أول يوم رأيتها تقف على الرصيف في انتظار الأوتوبيس ذهبت وتحدثت إليها وصرنا أصدقاء. علمت أنها تسكن تحتنا بثلاثة أدوار فصرت أمر عليها كل صباح لننزل سوياً مع أمها لانتظار "الباص".كانت أمها تودعنا بقولها "في حفظ الله يا نور عيني" ومن هنا جاء عشقي لكلمة "نور عيني" وصرت دائما أبتسم عند سماعها.
كانت فاطمة تشاركني سندوتشاتها وبسكوتاتها وعصائرها وكل ما كانت تشتهي نفسي... ولعل أمها لاحظت ذلك فصارت تحضر لي كيسا فيه نفس محتويات كيس ابنتها: 2 سندويتش + بسكوت ويفر محشو بالشوكولاتة - كان يذهب عقلي من جماله + علبة عصير وفي بعض الأحيان ثمرة فاكهة حسب الموسم.
فاطمأنت معدتي وفرح قلبي وظننت أن كل أحلامي قد تحققت وأنه لا سعادة تفوق تلك التي أضفتها طنط لبيبة إلى حياتي بكيس السندوتشات وأجمل ما في اللغة من كلمات حب ودفء.
كل هذا كان مجرد مدخل إلى العالم الوردي الذي وجدت نفسي فيه منذ أن سُمح لي أن أقضي فترة بعد الظهيرة أيضا في أحضان تلك العائلة الخيالية. نعم.. أقول خيالية لأنني حتى الآن لا أستطيع أن أصدق أنها كانت موجودة بالفعل بالرغم من وجود كثير من الصور والذكريات تثبت ذلك.
دعوني أحاول أن أوصف.. ربما استطاعت ذاكرتي أن تستعيد تلك الأيام التي قضيتها في الرسم واللعب والغناء والرقص والتحليق في فضاء جنة الأطفال كما يجب أن تكون.
كانت الحبيبة تفرش لنا الأرض بمشمع قديم وتكسوه بتلال من الأوراق البيضاء وكل أنواع الألوان والفرش والمقصات واللاصق وتتركنا لنفعل ما نشاء لساعات طويلة لم نشعر بمرورها قط. وكنا نخرج من تلك الغرفة ملطخين بالألوان من ساسنا لراسنا فتحملنا كالقطط الصغيرة بأطراف أصابعها لتلقينا في البانيو! في بعض الأحيان كانت تأتي لتعلمنا طريقة جديدة في التلوين أو التشكيل أو صنع حيوانات صغيرة من الورق، وأكثر لعبة بهرتني في تلك الفترة كانت الطباعة بالبطاطس. علمتنا كيف نقطع البطاطساية نصفين ثم ننحتها بسكين بأي شكل لتتكون صورة بارزة ثم نغمسها في الألوان ونطبعها على الورق مثل الأختام. لا أعرف لماذا استهوتني تلك اللعبة.. ربما لأنها كانت أكثرهم "لغوصة" حيث كان ينتهي الأمر بأن أصابعنا هي التي كانت تصبغ بالألوان ونستخدمها في تلطيخ ملابسنا بسعادة شيطانية، أو ربما لأنني أحب رائحة البطاطس النيئة. وجدت في نفسي في تلك الأيام كل المواهب... الرسم والغناء والرقص.. والكلام.
أدركت الآن أن كثير من الأشياء التي أحبها تعلمتها في هذا البيت... أولها مثلا الأفلام الموسيقية الاستعراضية "الميوزيكال" مثل "ماري بوبنز" و"صوت الموسيقى" و"آني" وأفلام الكارتون الكلاسيكية مثل "سيندريلا" والجميلة النائمة" و"سنو وايت والأقزام السبعة"... كنا أنا وفاطمة نحفظ الأغاني عن ظهر قلب ونذهب لنستعرضها على باقي الأطفال في المدرسة. تعلمت في هذا البيت أن الصوت العالي لا يُعَلِم شيئا ولا يربي طفلا وتعلمت أن الأطفال لن يموتوا من الجوع إن حرموا من الغذاء لقلة أدبهم أو رفضهم تناول نوع معين من الخضار وأن الذين يموتون من الجوع فعلا ويمرضون هم أطفال لا يتوفر لهم الطعام... تعلمت أن الابتسامة على وجه الأم لا يجب أن تؤخذ أمرا مسلما به بل هي رفاهية لمن عايشها وهي بالتالي نعمة يجب تقديرها...
افتقدتها كثيرا عندما عزلوا إلى منزل آخر وفقدنا الاتصال لكنني كل يوم أتذكرها وأبتسم عندما أمر بشقتهم أثناء نزولي للذهاب إلى عملي. ومازلت أذكر طريقة الطباعة والتلوين بالبطاطس وأنوي تعليمها لأولادي... لكنني مع الأسف لم أعد أرسم ولا أغني ولا أرقص.. وقلما تكلمت.