نظرا لأهمية النقاش الدائر حول موضوعي السابق قررت نشر آخر تعليق للأستاذ عبد الحق مستقلا هنا لعموم الفائدة. أتمنى أن تجدوه مثلي مفيداً ومثمراً وأن يستمر هذا الحوار البناء.
يقول عبد الحق:
لنتفق أولاً على مبدأ هو: أن ننظر إلى أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو إيديولوجية في إطارها التاريخي... مفيش ظاهرة اجتماعية أو فكرية يمكن أن تُدرس أو يُحكم عليها بمعزل عن العصر اللي ظهرت وتطورت فيه، ومفيش مُفكر يقدر يتحرر من عصره، يمكن يتمرد على حاجات موجودة في عصره... بس في الحالة دي بيكون بيعبر عن مطلب اجتماعي موجود في ذلك العصر... بتكون الظروف نضجت لإحداث تغيير أو بتكون هناك إرهاصات (بدايات أولى متواضعة) لهذا التغيير. من غير كده حيكون تمرده تمرد عاجز ويفضل حبر على ورق، أو صرخة في وادٍ كما يقول العرب، ويقول له التاريخ (أو "دهاء التاريخ" بتعبير الفيلسوف الألماني «هيجل»): " لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تُنادي". والتاريخ حافل بالأمثلة. بالاختصار الإنسان مش ممكن يتحرر من التاريخ.
يعني زي ما قلت للأخ «محمد» (وبالمناسبة أنا لا أقصد مهاجمته أو تجريحه، كل ما أقصده هو أن أضع أمامه وجهة نظر مختلفة وأستدعي نظره لأمور ربما لم يأخذها في اعتباره. محدش بيحتكر الحقيقة. ومفيش "حقيقة مطلقة" في الفكر البشري)، أرجع تاني وأقول للأخ «محمد» والأخ «لون وولف» (الذئب المستوحش آنس الله وحدته) إني مقدرش مثلاً أهاجم «أفلاطون» لأنه لم ينتقد نظام العبودية، بل أَخَذَه كحقيقة مسلمة في "جمهوريته"، مقدرش أقول عليه رجعي، لازم أبُص له في ظروفه وهل كانت هذه الظروف تسمح بتجاوز نظام العبودية أم لا. أنا أتفق مع «ماركس» في قوله إن مفيش نظام اجتماعي بيختفي غير بعد ما يكون استنفد كل أغراضه وأعطى كل ما عنده (دي قضية فرعية ولكنها مهمة جداً في اعتقادي). عندئذ تنشأ الحاجة للتغيير وترتفع الأصوات مطالبة به ويصبح المفكر قادراً على تحريك الناس. (اقرأ مثلاً عن تاريخ فرنسا قبل الثورة الفرنسية عام 1789 أو تأمل الحياة السياسية والفكرية في مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952)
هل اتفقنا على ضرورة النظر لكل ظاهرة سياسية أو اجتماعية أو فكرية في إطار عصرها وظروفها؟ أعتقد إن ده أصبح شيء بديهي في عصرنا الحاضر. ولكن للأسف ناس كتير بينسوه إما عن سذاجة أو قلة خبرة وإما عن غرض، والغرض مرض كما يقول المثل.
في ضوء هذا الكلام أنا لا أستطيع أن أقبل موقف الذين ينتقدون موقف القرآن والسنة من قضية المرأة مثلاً. لماذا؟ لأن هؤلاء لا يعرفون، أو يتناسون عن قصد، العالم كله كان شكله إيه في الوقت ده. هؤلاء يتناسون أن القانون الروماني ظل لفترة طويلة جدا يعطى للرجل حق الحياة والموت على زوجته وأولاده. يعني الراجل لو قتل مراته أو ابنه أو بنته محدش له حاجة عنده. ده حقه القانوني. العرب قبل الإسلام كانوا بيدفنوا بناتهم أحياء. الهندوس كان عندهم الزوجة بتتحرق حيه عند موت الزوج.. وده تقليد استمر عندهم لغاية وقت قريّب. وممكن أسرد لكم أمثلة أخرى كثيرة عن وضع المرأة في الحضارات القديمة ولدى الشعوب في العصور السابقة.
حد ممكن يقول: طيب والحقوق السياسية للمرأة؟ والرد بسيط: موقف المجتمعات المسلمة من هذه القضية، وخصوصاً في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، كان يمكن أحسن من موقف كل المجتمعات المعاصرة (أي معاصرة لتلك المجتمعات المسلمة، عشان «محمد» ميقوليش الضمير بيعود على مين). يعني الإسلام أعطى للمرأة الحق في أن تكون لها ذمة مالية مستقلة عن الأب أو الزوج، وده مش مجرد حق اقتصادي، ده حق سياسي بالتأكيد. ليه؟ لأن ده معناه اعتراف بالمرأة كشخصية قانونية مستقلة. إعتراف بالمرأة ككائن بشري له كيانه المستقل عن الرجل. وبعض الفقهاء أعطى للمرأة حق ولاية القضاء.. وده بالتأكيد حق سياسي..
حيرد علي واحد ويقول بس القرآن بيقول "الرجال قوامون على النساء". أي نعم: الرجال قوامون على النساء. لكن هل ده معناه إن الرجل أفضل من المرأة؟ لازم نفهم أولاً معنى كلمة "قوامون". نرجع إلى لسان العرب، قال "وقد يجيء القيام بمعنى المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى "الرجال قوامون على النساء" وليس يراد ها هنا .. القيام الذي هو المثول والتنصب وضد القعود، إنما هو من قولهم قمت بأمرك، فكأنه يعني، والله أعلم، الرجال متكفلون بأمور النساء معنيون بشؤونهم" (لسان العرب، طبعة دار المعارف، المجلد الخامس، الصفحتان 3781 و3785). المعنى إذن هو أن من واجب الرجل المحافظة على المرأة والعناية بشؤونها. طيب ده وحش في إيه؟ ممكن نجد تفسير آخر يقول أن "قوامون" جاية من القيام أي التهيؤ للدفاع وخوض الحرب، فكلمة "قوم" معناها في العربية، أو على الأقل لدى معظم علماء اللغة، الجماعة من الرجال دون النساء لأن الرجال هم الذين "يقومون" للحرب. نرجع تاني للسان العرب: "وقيل (أي القوم) للرجال خاصة دون النساء، ويقوي ذلك قوله تعالى ’لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن‘. فلو كانت النساء من القوم لم يقل ولا نساء من نساء، وكذلك قول «زهير» (الشاعر زهير ابن أبي سلمى):
"ما أدري وسوف إخال أدري
أقومٌ آل حصنٍ أم نساءُ؟"
(لسان العرب، المجلد نفسه ص 3786)
طبعاً صديقي العزيز «محمد» ممكن يقوللي دلوقتي: اظبط! شايف «زهير بن أبي سلمى» بتاعك ده بيحتقر المرأة ازاي؟ وحقول له معلش يا عزيزي ده شاعر جاهلي نسيبه على قد عقله .. العصر بتاعه كان كده، والدنيا كلها كانت كده على أيامه، والاتجاه ده – أقصد استعلاء الذكر على الأنثى – موجود لحد النهارده – على الأقل على المستوى الشعبي – حتى في المجتمعات الأمريكية والأوروبية "المتقدمة" ولغاية دلوقتي الحركات النسائية أو الأنثوية feminist بتشتكي من استمرار سيطرة الذكور وقيم النظام البطريركي – يعني سيطرة الأب – في البلاد الرأسمالية الغربية.
نرجع لموضوعنا، ونقول إننا لو أخذنا بالتفسير الأخير لمعنى كلمة "قوامون"، حنلاقي إن المعنى هو إن من واجب الرجال الدفاع عن النساء أثناء الحرب. طب وإيه الغلط في كده؟ وده منطقي جداً.. لازم يدافعوا عن نساءهم ويستموتوا في الدفاع عنهم كمان لأن النساء في الزمن ده كانوا بيتاخدوا سبايا.. وده - والله العظيم يا «لون وولف» – ماكانش عند العرب لوحدهم.. كان عند الشعوب كلها في ذلك الوقت. ويمكن العرب المسلمين كانوا أرحم من غيرهم بكتير (ارجع مثلاً لوصايا «عمر بن الخطاب» لقادة جيوشه).
نخلص من ده كله بأن الإسلام ساوى بين الذكر والأنثى في الإنسانية. الأنثى مكلفة دينياً مثل الذكر تماماً وعلى قدم المساواة. والقرآن بيخاطب الرجل والمرأة على حد سواء. واحد حيقول طيب وحق الميراث ليه ما فيهوش مساواة بين الرجل والمرأة؟ حرد عليه بالفم المليان وأقول إن ده شيء عظيم جداً في وقت كان الرجل يتحمل فيه كل أعباء الإنفاق على الأسرة، في وقت كانت فيه نظم قانونية في بلاد أخرى تحرم المرأة من الميراث ولا تعطيها الحق في أن تكون لها ذمة مالية أصلاً. وهناك أنظمة كانت تقصر حق الميراث على الذكر الأكبر حتى لا تتفتت الملكية. وهناك أنظمة أخرى كانت تخضع الميراث للوصية.. وهكذا.
(طبعاً فاكرين «الملك لير» وازاي وزع تركته على بناته الثلاثة، أو على اثنين منهم على الأصح. بس دي كانت "دوطة" للأزواج.. يعني للذكور برضه. واللي جه يحاول ينقذه كان جوز البنت الصغيرة ومش البنت نفسها... يعني "الرجال قوامون على النساء" برضه)
طيب وفي الوقت الحاضر اللي المرأة فيه بتشارك في حمل الأعباء المالية مع الراجل، حنقول إيه؟ حنقول إن الإسلام ما بيسدش الباب بالضبة والمفتاح. الراجل أو الست (طبعاً اللي ربنا فاتح عليهم وعندهم حاجة ممكن يورثوها لأولادهم) اللي حاسين إن بناتهم محتاجين أو إن ولادهم الذكور عندهم ما يكفيهم قدامهم منافذ كثيرة: الوصية في حدود ثلث التركة، والبيع أو الهبة للبنات أثناء حياة المورث أو المورثة. ودي كلها حاجات حلال ومحدش يقدر يقول فيها تلت التلاتة كام. المهم انه ما يظلمش حد: "الظلم ظلمات يوم القيامة" ؛ والمثل الشعبي بيقول "من حكم في ماله فما ظلم" بس طبعاً من غير سفه ولا جور على حقوق حد لأن ده بينهى عنه الإسلام.
طيب ونروح بعيد ليه. النهارده الأغلبية الساحقة من البلاد الإسلامية بتتمتع فيها المرأة بحقوقها السياسية. لها حق الانتخاب وحق عضوية البرلمان.. حتى في اليمن اللي كان بيحكمها منذ بضعة عقود إمام مشعوذ بيدعي العصمة والقداسة (والأخ «محمد» زعلان وبيتكلم عن "مذابح الجيش المصري" في اليمن، لو كان راح اليمن كان شاف اليمنيين بيحبوا مصر وعبد الناصر قد إيه. يا أخ «محمد» لسه لغاية النهارده فيه حزب اسمه «الحزب الناصري» في اليمن. ولو كنت شفت في الفضائيات صور مظاهرات اليمنيين احتجاجاً على غزو العراق كنت حتلاحظ إن كتير منهم رافعين صور «جمال عبد الناصر». وده رغم إن ’اخواننا البُعدا‘ بيشيطنوا عبد الناصر ويشوهوا صورته من عام 1955 لغاية دلوقتي). وفي إيران، يعني حتى في بلد ’ولاية الفقيه‘، نسبة النساء في البرلمان أضعاف نسبة النساء في الكونجرس الأمريكي... دي مجرد أمثلة. طيب هل خرجت الشعوب المسلمة غاضبة تقول إن إعطاء المرأة حق الانتخاب ودخولها البرلمان "رجس من عمل الشيطان"؟ محصلش. عندنا في مصر المرأة بتتمتع بحقوقها السياسية من أكتر من خمسين سنة، وده ماكانش تحت ضغط الأمريكان ’حماة الديمقراطية وحقوق الإنسان‘.. لأ دا كان بتأثير التحولات الاجتماعية الداخلية اللي كانت بتعيشها مصر في تلك الفترة...
أكثر من كده هناك دول إسلامية معاصرة وصلت فيها المرأة إلى أعلى المناصب. يعني رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء.. «بينظير بوتو» في باكستان و«ميجاواتي سوكارنو» في إندونيسيا و«طانسو تشيللر» في تركيا (للعلم تركيا فيها تيارات إسلامية جماهيرية قوية جداً رغم ’علمانية‘ الدولة) هل خرجت الجماهير المسلمة في البلاد دي وكسرت الدنيا احتجاجاً على وصول نساء إلى هذه المناصب؟ بالعكس الجماهير هي اللي جابتهم للسلطة وعن طريق الانتخابات.
ده كله معناه إيه؟ معناه إن العقيدة الإسلامية، كما تعيش في قلوب الجماهير، مابترفضش التطور ومابتسدش الباب قدام التقدم. معناه إن الإسلام الحي، الإسلام اللي عايش في قلوب ملايين الناس وليس في أمخاخ بعض المتزمتين، مش هو العقبة وان فيه (أي في الإسلام) مرونة وحيوية تخليه قادر على الاستجابة لاحتياجات العصر.
نضرب بعض الأمثلة: في أواخر القرن التاسع عشر أصدر الخليفة العثماني، السلطان «عبد الحميد» في الوقت ده، فرمان يأمر الجنود الانكشارية بخلع العمم (العمائم) اللي كانوا بيلبسوها على روسهم ولبس الطرابيش بدلاً منها (طرابيش زي اللي كان الأفنديات المصريين بيلبسوها على روسهم لغاية سنة 1950 تقريباً). وكانت النتيجة ثورة عارمة: رفض العساكر، وخرجت الناس في الشوارع تكسر وتحرق احتجاجاً على هذه البدعة (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، بس دي يا ناس بدعة لا تمس جوهر الدين في شيء!) هل ده ممكن يحصل النهارده؟ طبعاً مستحيل. الأتراك خلعوا العمم والطرابيش وعندهم دلوقتي بيوت أزياء بتنافس البيوت الأوروبية.. ومع ذلك فضلوا مسلمين. تشوف الجوامع هناك يوم الجمعة مليانة لآخرها. المصريين وكثير من العرب التانيين خلعوا العمم والطرابيش بهدوء ومن غير كلام عن البدع ولا مناداة بالويل والثبور للمتفرنجين المارقين. حتى ’آيات الله‘ في إيران ميقدروش يقولوا للإيرانيين النهارده اخلعوا البدل والبسوا الجلباب والعمامة. معنى كده إيه؟ معناه إن التطور بيشق طريقه، وإن المسلمين مابيرفضوش التجديد. مادام لا يتعارض مع أصل من أصول الدين. ولا أعتقد أن هناك تجديد جوهري أو مفيد أو ضروري يمكن أن يتعارض مع أصل من أصول الإسلام.
هل ده تبسيط للأمور؟ هل معنى ده إن كله تمام وإن ’ليس في الإمكان أبدع مما كان‘؟ لأ.. ده تركيز على ما هو جوهري. عارف إن فيه ناس متحجرين ويمكن ’ظلاميين‘ كمان.. لكن دول مش الكتلة الأساسية.. دول تيارات هامشية لا تمثل الغالبية الساحقة من المسلمين. ودي ظاهرة طبيعية تماماً في فترات التدهور والإحباط. لما الناس تبص قدامها ماتلاقيش أفق واضح. لما المثقفين بتوعهم يقولولهم: حياتكم كلها هزائم وتاريخكم مافيهوش حاجة مضيئة. دي ظاهرة وجدت في حياة شعوب كثيرة. فإذا استطاعت الشعوب أن تنهض .. بتختفي هذه الظاهرة بالتدريج إلى أن تزول تماماً.
هي دي مشكلتنا الكبرى النهارده.. إن إحنا ننهض.. إن إحنا نتحرك للأمام.. إن إحنا نحقق لشعوبنا مستوى حياة أحسن.. وتعليم أحسن.. ومشاركة متزايدة في صنع القرار وفي تغيير حياتها من غير استعلاء عليها.. وبالاستماع لها والتعلم منها.
وعشان كده لازم نركز على ما هو جوهري.. أما الثانوي والهامشي فنضعه في حجمه الحقيقي بدون مبالغة أو تضخيم. الأخ «محمد» بيهاجم اللي بيشيطنوا الآخرين ويعاملوهم كأنهم كتلة صماء مصمتة أو متجانسة تماماً. لأ يا أخ «محمد» محدش يقدر يقول إن الأمريكان (أو الإسرائيليين حتى) كتلة متجانسة أو صماء.. إحنا عدونا مش الشعب الأمريكي.. الشعب الأمريكي خرج في مظاهرات مليونية ضد غزو العراق.. الشعب الأمريكي ساهم بدور مهم جداً في وقف حرب فيتنام، بس الدور الرئيسي والجوهري كان طبعاً مقاومة الفيتناميين أنفسهم.. الشعب الأمريكي فيه مفكرين ومثقفين عظام نحترمهم ونتعلم منهم.. بس برضه نحلل ونفرز، ونشوف المفيد في أفكارهم ونستفيد بيه.. ونشوف غير المفيد والضار ونرفضه.. لازم إحنا اللي نفكر لنفسنا.. صحيح ناخد من الآخرين كل ما هو إيجابي ومفيد.. بس، في الوقت نفسه، نملك زمام فكرنا. المثل العربي القديم بيقول: "أهل مكة أدرى بشعابها". الإسرائيليين برضه مش كتلة صماء.. لأ فيهم، حتى النهارده، أفراد ويمكن تيارات - محدودة التأثير- عايزه السلام وبتتخذ مواقف موضوعية أو قريبة من الموضوعية.. أنا احترم جداً ناس زي «يوري أفنيري» أو «نورمان فنكلشتاين» أو «إسرائيل فنكلشتين».. وأقرأ دراساتهم وأستفيد بيها جداً. طبعاً كان فيه وقت كان فيه حركة «السلام الآن» وكان لها قدر غير قليل من الجماهيرية. دلوقتي نفوذها انحسر، وأصبحت الكلمة العليا في الشارع الإسرائيلي للمتطرفين والمتعصبين.. مش كده ولا إيه؟ (ودي ظاهرة مرتبطة بخصخصة القطاع العام في إسرائيل وممتلكات الهستدروت، أي تصفية القاعدة الاقتصادية لحزب العمال الإسرائيلي، ومرتبطة أيضاً بالاستراتيجية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة وبالتغييرات في التركيب السكاني لإسرائيل). يعني خلاصة الكلام إننا ممكن نبقى مدركين للاختلافات والتباينات في المجتمع الأمريكي أو الإسرائيلي. بس الغلط هو أن نتوهم إن المعارضة الأمريكية أو الإسرائيلية هي اللي حتحررنا أو تحل لنا مشاكلنا. دي مهمتنا إحنا.. وده من غير ما نشيطن حد ومن غير ما نغمض أعيننا عن الحقائق الموضوعية.. لأننا بقدر ما ندرك الواقع على ما هو عليه بدون أوهام أو تزويق أو تشويه، بقدر ما نقدر نبقى مؤثرين.
المشكلة الخطيرة جداً في اعتقادي إن إحنا "نشيطن" بعض. أنا بصيت مثلاً على البلوج بتاع الأخ «لون وولف» ولقيت مفيش حد عاجبه.. لا "المعارضة البرجوازية" ولا "اليسار المنفصل عن الشارع" ولا "الإسلاميين" ويمكن عشان كده اختار إنه يكون "لون" و"وولف" عشان كده هو محبط وبيسارع إلى "تسجيل احتجاجه" على كلامي بدون ما يوضح الأسباب.
مش ده معناه إن إحنا بنشيطن بعض.. بنشيطن "المعارضة البرجوازية" و"اليسار" و"الإسلاميين"؟ يعني على رأي الأخ «محمد» بنبص لكل تيار من التيارات دي ككتلة مصمتة، كتلة غير متجانسة ومرفوضة كلها على بعضها؟ مفيش حد ’يوحد الله‘ داخل هذه التيارات كلها قصده خير وقلبه على البلد وعايز ينهض بيها؟ وهل صحيح أن هذه التيارات كلها متجانسة.. اليسار كله متجانس والمعارضة البرجوازية متجانسة والإسلاميين متجانسين؟ مش صحيح.
الحقيقة إن كل الناس اللي عايزين ينهضوا بالبلد.. اللي عايزين يبقى فيه تنمية حقيقية.. يقضوا على الفساد.. يحققوا مشاركة شعبية حقيقية ومتزايدة.. يقضوا على البطالة.. كل الناس اللي عايزين يوقفوا التدهور والخراب المتزايد.. كلهم في خندق واحد.. رغم اختلاف الإيديولوجيات اللي هو شيء طبيعي.
يعني في مصر "الإسلامي" اللي بيرفض التبعية للغرب وبيرفض الفساد مع "اليساري"، ويمكن كمان مع أجزاء كبيرة من المعارضة البرجوازية، في خندق واحد. في فلسطين.. «حماس» و«الجهاد» و«الجبهة الشعبية» و«الجبهة الديمقراطية» و«حزب الشعب» (الحزب الشيوعي الفلسطيني) وعناصر كتير في «فتح».. كل دول في خندق واحد.
أي تعميق للخلافات.. أي شيطنة لطرف للطرف الثاني.. أي اختلاق لمعارك واختلافات وهمية لا يخدم إلا مصالح أعداءنا ونتيجته الوحيدة هي تعطيل النهضة والتغيير..
حتقول لي الإسلاميين مش ديمقراطيين.. بعضهم بيقول الديمقراطية نظام غربي لا يتفق مع الإسلام. حقول لك تعالى بص في عالم اليوم.. الإسلاميين بيحكموا في تركيا في ظل نظام علماني.. الإيرانيين عندهم برلمان وانتخابات يعني مش "بيعة من أهل الحل والعقد" وعندهم تيارات مختلفة.. محافظين وليبراليين.. الخ. يعني التطور ماشي والعصر بيفرض ضروراته.
وبعدين مين قال إن الديمقراطية الموجودة في أمريكا وأوروبا هي الشكل الأمثل الكامل الأوصاف والمعاني اللي لازم ناخده زي ما هو ونطبقه في بلادنا؟ كتير من علماء السياسة والمفكرين الغربيين بينتقدوا النظام الديمقراطي عندهم. بُص لنسبة المشاركين في الانتخابات وكيف تتناقص.. ناس كتير هناك يئست من جدوى الانتخابات واللعبة كلها.. بُص للعملية الانتخابية وكيف تجري وتدار؟ دلوقتي فيه "خبراء انتخابات" بياخدوا عشرات ومئات الملايين من الدولارات.. وبيشتغلوا مع اللي يدفع أكثر.. عشان يعلموا المرشح إزاي يحط "الروج" على شفايفه وازاي ينتف حواجبه ويسرح شعره.. وازاي يتآمر على خصومه.. وازاي يخدع الشعب بالكلام المعسول والمزوق.. بالاختصار إزاي "يسوق" نفسه.. يعني السياسة والديمقراطية والانتخابات والكلام الكبير ده أصبح سوق كبير.. بتلعب فيه الشركات الكبرى والشاطر اللي عنده فلوس أكتر ويقدر "يلبس الناس الطاقية" ويأكلهم البالوظة أكتر من التاني.
الديمقراطية دي - ديمقراطية السوق – ما تلزمناش.. إحنا عايزين ديمقراطية تخلي الناس يشاركوا في صنع القرار بحق وحقيق. عايزين ديمقراطية حقيقية مش حقوق حبر على ورق.. عايزين ديمقراطية تساعدنا على بناء بلادنا .. على تنمية حقيقية.. ديمقراطية تساعدنا على القضاء على البطالة والفساد.. ديمقراطية مختلفة.. أعمق في مضمونها بكتير من الديمقراطية الغربية. ومش ديمقراطية شكلية لا تودي ولا تجيب. وعلينا من خلال الممارسة كلنا، ليبراليين ويساريين وإسلاميين، أن نكتشف معاً الطريق.. أن نبتكر معاً الأشكال الديمقراطية اللي ممكن تنفع لنا وتساعدنا.. كلنا في خندق واحد.. عشان كده بقول كفايانا انفصال عن شعوبنا، كفايانا شيطنة في بعضينا.. كفايانا تضخيم في عيوبنا وتيئيس للناس.. كفايانا اغتراب عن جذورنا.. كفايانا تبعية فكرية.. كفايانا شرزمة.. والكلام ده موجه للجميع دون استثناء.
وإلى اللقاء مرة تانية عشان نتكلم عن موضوع "الشوفينية" بالتفصيل ونرد على الأخ العزيز «لون وولف».