أحمد عبد العليم (عبد الحق) يكتب رداً على مداخلة اللواء ممدوح شاهين على أون تي في منذ يومين
معذرة سيدي اللواء!
السيد اللواء ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشئون القانونية، يسأل المصريين: أين كنتم طيلة عهد مبارك؟ و هو يوجه هذا السؤال إلى ثلاثة من مفكرينا أعربوا عن تحفظات لهم على الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري مؤخرا . لم يجد السيد اللواء غضاضة في طرح هذا السؤال وكأن الذي أجبر مبارك على التنحي لم يكن هذا الشعب.. وكأن الشهداء، الذين أدى المتحدث باسم المجلس الأعلى التحية العسكرية لهم، لم يقدموا شيئا، وكأنه كان من الممكن لسيادة اللواء أن يخاطبنا اليوم ويسألنا "أين كنتم؟" لولا أن الشعب المصري قام بثورة، و لولا أن هذه الثورة أرغمت مبارك على التنحي وكانت بالتالي هي السبب الحقيقي، والمباشر، في تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مقاليد السلطة. لنكن واضحين: المجلس الأعلى يستمد شرعيته من الشعب وليس من تكليف "رئيس مخلوع " موضوع قيد الإقامة الجبرية حسبما يقول المجلس. معنى ذلك أن مصدر شرعية المجلس الأعلى هو رضا الشعب عنه وقبوله له وليس أي شيء آخر، وهذه حقيقة يجب ألا تغيب لحظة واحدة عن أي مواطن و لا نعتقد أنها تغيب، بصفة خاصة، عن قادة قواتنا المسلحة أعضاء المجلس الأعلى ! يكفي أن يعود السيد اللواء إلى الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس والذي يقول إن "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات"، أم هل يراد منا أن ننظر إلى هذا النص كـمجرد "ديكور" أو "عبارة إنشائية" لا " تودي ولا تجيب" على نحو ما استقر عليه العمل أيام النظام البائد ؟ ثم، لنفترض جدلا أن أخطبوط النظام القمعي، بقواته التي بلغت من حيث العدد ثلاثة أمثال القوات المسلحة وبممارساته التي لم يتورع فيها عن شيء، كان أقوى منا وأنه ظل قادرا على إرهابنا وقمعنا عشرات من السنين، هل يعني ذلك أننا لا نملك اليوم حرية توجيه النقد لحكامنا بعد أن دفعنا ثمن هذه الحرية وكفّرنا عن "خطيئة الصمت" التي يتهمنا بها السيد اللواء؟!
أما إذا كان السيد اللواء يريد أن "يعاير" مثقفينا ويتهمهم بالجبن عن انتقاد مبارك والسكوت عن ديكتاتوريته فقد جانبه التوفيق هنا أيضا. هل يمكن لأحد أن يقول إن محمد حسنين هيكل لم ينتقد؟ هل يمكن اتهام علاء الأسواني بالسكوت؟ هل يمكن أن نتهم إبراهيم عيسى بالصمت؟ هل بوسع أحد أن ينكر أن صنع الله إبراهيم رفض جائزة مبارك احتجاجا على سياساته؟ هل يمكن أن تتهم جلال أمين وحسام عيسى وحسن نافعة وأمين اسكندر وجورج اسحق وبهاء طاهر وعبد الحليم قنديل وشريف حتاتة ومحمد أبو الغار وأسامة الغزالي حرب وأحمد النجار ومحمد عبد القدوس وأبو العز الحريري و حمدين صباحي [على اختلاف توجهاتهم وبدون ترتيب أو ألقاب] وعشرات آخرين من كبار مثقفينا بمداهنة النظام الساقط أو بتملق الديكتاتور؟ هل تنكر يا سيدي اللواء الموقف الشجاع لكثير من قضاتنا ضد تزوير نتائج الانتخابات وضد التدخل في استقلال القضاء؟ هل يمكن لأحد أن يتهم الذين لجئوا إلى القضاء لمنع تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل بالجبن؟ ثم هل يمكن لأحد أن ينسى الحملة الواسعة التي شنها مثقفونا الشجعان ضد "التوريث" في مواجهة مرتزقة لجنة السياسات وزبانية أمن الدولة و بلطجية الإعلام؟
ثم، هل يمكن لأحد أن ينكر أن جماهيرنا المقهورة المستلبة الحقوق قاومت ببسالة سياسات الإفقار والتجويع، و نظمت احتجاجات واعتصامات وإضرابات على مدى سنوات عديدة ماضية، وخاضت أحيانا معارك دامية في مواجهة جهاز مبارك القمعي المتوحش؟ هل يمكن لأحد أن يقول لعمال غزل المحلة أين كنتم؟ هل يمكن لأحد أن يقول لعمال السويس أين كنتم؟ هل يمكن لأحد أن يقول لعمال بورسعيد أين كنتم؟ هل يمكن لأحد أن يقول لموظفي الضرائب العقارية، أو للذين خاضوا معركة الحد الأدنى للأجور، أين كنتم؟ هل يمكن لأحد أن ينكر اليوم أن هذه الاحتجاجات الاجتماعية المتواصلة كانت روافد أساسية لثورة 25 يناير، وأن انتشارها على هذا النطاق الواسع يقدم دليلا قاطعا على إفلاس السياسات الاقتصادية والاجتماعية لنظام القهر والنهب والإفقار بقيادة مبارك وبطانته من رجال الأعمال الفاسدين.
لكن أكثر ما يثير الألم في كلام السيد اللواء كان هو قوله: أنظروا إلى ما يحدث في ليبيا والبحرين وقارنوا بين موقف الجيش هناك وموقف الجيش في مصر! أريد أن أتكلم هنا بأقصى قدر من الصراحة فأقول إذا كان المقصود بهذا الكلام هو المن على الشعب المصري من منطلق: " أنظروا ما فعلناه وما فعله غيرنا واحمدوا ربنا !" فهذا موقف مرفوض بل ومناقض لكل المواقف المعلنة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه. نعم نحن نحمد ربنا و"نبوس إيدينا وش وضهر" على السراء والضراء، لكن الذي يجب أن يكون واضحا هنا وضوح الشمس هو أن الشعور بأن الجيش "تفضل" على الشعب حين رفض إطلاق النار عليه هو شعور لا يقوم على أساس. فطبيعة الأمور في أي بلد متحضر هي أن الجيش ليس أداة قمع وإرهاب توجه نيرانها لأبناء الشعب بل أداة تحمي الشعب من أعدائه الخارجيين. هذه هي طبيعة الأمور في أي بلد متحضر فما بالكم بها في مصر التي يعتبر شعبها الجيش جزءا من نسيجه الوطني.. ينظر إليه حتى الآن ، ورغم كل ما حدث من تشويش في العهد البائد، بوصفه الدرع الذي لا يمكن للأعداء انتزاعه منه! لنقل بصراحة إن الجيش نزل إلى الشارع بعد أن عجز زبانية أمن الدولة والأمن المركزي عن قمع الشعب والإجهاز على ثورته. هذه القوات، التي تفوق في عددها القوات المسلحة، هي المؤهلة والمسلحة والمدربة لقمع التحركات الجماهيرية. وقد استخدمت هذه القوات، كما رأينا، كل ما في جعبتها في مواجهة المتظاهرين العزل.. ولم تتردد في استخدام كل ما يخطر على البال وما لا يخطر على البال من وسائل. وفشلت في النهاية! واجهتها الجماهير بصدورها العارية وهي تهتف:"سلمية سلمية!" وهزمتها. أليس هذا ما حدث؟! وعندئذ استنجد النظام بقوات الجيش، متصورا أن مجرد انتشارها في الشوارع والميادين كفيل بردع الجماهير. ولم ترتدع الجماهير. أليس كذلك؟! فهل كان أمام جيشنا، بتركيبته وتاريخه، خيار آخر سوى رفض إطلاق النار على الشعب؟ هل كان بوسع جيش كجيشنا أن يطلق مدافع دباباته على الشباب الأعزل أو يهرسه تحت جنازيرها؟ هل كان من الممكن لجيش كجيشنا أن يتحمل وزر هذه الجريمة التاريخية بكل تداعياتها الكارثية؟ هذا حين ننظر للأمر من الوجهة الأخلاقية. حين ننظر إليه من الوجهة العملية سنجده مستحيلا أيضا. فالدبابات والمدرعات ليست سلاحا لفض المظاهرات. الأسلحة الفتاكة لفض المظاهرات كانت كلها بأيدي قوات الجنرال العادلي و لم تفلح في فضها! لم يكن أمام الجيش سوي أن يستخدم رشاشات طائرات الهيليوكبتر لحصد الجماهير في الشوارع كما فعل شاه إيران أثناء الثورة الإسلامية. لكن هذا، فضلا عن فشله في إنقاذ شاه إيران ونظامه، كان يحتاج إلى جيش من المرتزقة وليس إلى جيش كجيشنا المصري. وهنا لا يملك المنصف إلا أن يقول: لقد تصرف قادة جيشنا بذكاء ولم يترددوا طويلا في اتخاذ القرار الصائب- أي في الاهتداء إلى الموقف الممكن عمليا- ونحن مدينون لهم بذلك دون شك. فأن يهتدي الإنسان إلي الخيار الوحيد المتاح له فهذا شيء محمود يستحق الإشادة به وقد أشاد به شعبنا وما يزال. أما التعالي على الشعب والمن عليه بهذا الموقف فهو أمر مرفوض، وقد أثار بالفعل غضبا شديدا لدى كثير من الشباب. و أما الكلام عن ليبيا والبحرين وموقف قوات الجيش فيهما فأقل ما يقال فيه أنه بعيد عن التوفيق. في ليبيا حرب أقرب ما تكون الآن إلى حرب قبلية شديدة التعقيد يتواجه فيها طرفان مسلحان، وتتداخل فيها عناصر مرتزقة يستخدمها النظام إلى جانب القوى القبلية المناصرة له، ودعم أجنبي- غربي و"عربي"- للقوى المناوئة للقذافي، فأين هذا من الثورة السلمية في مصر؟ وفي البحرين صراع طائفي تتداخل فيه عوامل إقليمية ودولية، وجيش ينحاز لإحدى الطائفتين بحكم تركيبه وولائه للنظام المدعوم من الغرب ومن بعض القوى الإقليمية. فأين هذا أيضا من الثورة السلمية في مصر؟ هذه مجتمعات تختلف في تركيبتها السكانية عن المجتمع المصري، وجيوش تختلف تماما عن جيشنا المصري سواء من حيث انتماءاتها القبلية والطائفية وهو أمر لا نعرفه في مصر – أقدم دولة مركزية في العالم- أو من حيث تاريخ هذه الجيوش الحديثة النشأة مقارنة بجيشنا المصري. أم تراك تقبل يا سيدي اللواء أن تقارن جيشك بهذه الجيوش، وأنا لا أتكلم هنا بمنطق الاستعلاء بل بمنطق الاختلاف ؟
بقيت نقطة أخيرة وهي ما قاله السيد اللواء عن الإعلان الدستوري وما أبداه من ضيق تجاه تحفظات الدكاترة حسام عيسى وحسن نافعه و جمال زهران على هذا الإعلان، والحديث في هذه النقطة يطول. أما الغريب في موقفه فكان قوله إنه لا يحق لأحد أن يفتي في هذه الأمور سوى فقهاء القانون، ووجه الغرابه انه كان يخاطب بالفعل ثلاثة من كبار أساتذة القانون في مصر. لكن يبقى مع ذلك أن قضية الدستور جزء من الشأن العام الذي يجب أن يهتم به كل مواطن، ومن حق كل مواطن أن يقول رأيه فى هذه القضية وإنكار هذا الحق معناه نسف مبدأ " الاستفتاء " من أساسه، فالاستفتاء معناه أنك تطلب من الشعب أن " يفتي" برأيه فيما هو معروض عليه.
لا يعتقد أحد أننا بحاجة لأن نقول لقادة جيشنا، الذي نكن له أعمق الاحترام، أن التعامل مع الجماهير، ومع الشباب بصفة خاصة، يحتاج للكثير من رحابة الصدر والاستعداد للإصغاء لكل وجهات النظر وعدم الضيق بأي منها. فلا مجال هنا لـ " ضبط وربط" و لا لـ" تسلسل قيادات" و لا لطاعة عمياء. هناك حساسية شديدة لدى هذا الجيل الثائر تجاه أي شبهة لفرض الوصاية أو للعودة لأساليب الإملاء والقمع. ولا شك أن كل مصري مخلص يتطلع أن تؤدي الفترة الحالية إلى توثيق التجاوب والفهم المتبادل بين الشعب والجيش.
نريد لهذه المرحلة الانتقالية أن تؤكد شعار " الشعب والجيش إيد واحدة" الذي رفعه الشباب الثائر، وأن تجعل من هذا الشعار عقيدة تستقر في وجدان كل مصري.