في الطريق إلى هناك أخبرتني عمتي أن اسم هذه القرية كان في الأصل "ألفا قوس" (أي 2000 قوس) ثم تحول على مر الزمن إلى "فقّوس". لم تشرح لي علاقة المكان بالأقواس أو عددها ولم أسأل، لكنني انبهرت من فكرة وجود أصول ذات معنى لأسماء الأماكن، ومكثت طوال الطريق أفكر في أصول الأشياء وأسمائها.
أعجبني أيضاً اختلاف النطق بيننا نحن القاهريين وبين أهل القرية الذين كانوا ينطقونها "فجّوس" بينما ننطقها نحن "فأّوس". ارتبطت الكلمة في ذهني ببيضات دجاجات عمتي خديجة وبطها "المستكوفي" الذي كانت تفتخر به والذي سكن عشة فسيحة طالما جلست بداخلها منتظرة أن أرى البيض وهو يفقس كتاكيت، وهكذا أصبح ذكر "فقوس" مقترناً في عقلي بحظيرة منخفضة الضوء ذات رائحة كريهة تحتضن في أركانها أملاً في الحياة : البيض وهو يفقس الكتاكيت.
هل كان صباح عيد الأضحى أم عيد الفطر حينما جلست مع بنات القرية تحت تكعيبة العنب أتأمل جلابيبهن زاهية الألوان وأشعر بالضآلة والقبح في قميص نومي الطفولي القصير المزدحم بالدببة الصغيرة وعبارة "تصبح على خير" بكل اللغات ما عدا العربية؟
كانت الحاجّة زينب تأتي إلى بيتنا كل يوم لتساعد عمتي في تنظيف المنزل وإعداد الطعام وتحضر بناتها الخمس معها ليساعدنها. أحببتهن جميعاً لكن بهيجة كانت أقربهن إلى قلبي، وجهها مبتسم تشريحياً وعيناها عسليتان مليئتين بالدفء. كانت أطولنا وأكبرنا سناً، طالما حاولت أن أجدل شعري الخفيف مثلها لكن ضفيرتها الكثيفة المتماسكة لم يكن لها مثيل.
كنت أنتظر البنات كل يوم بفارغ الصبر حتى ينتهين من المهام المنزلية لكي ننطلق إلى الحديقة ونغرق في اللعب. ما عدا في العيد... لم أضطر أن أنتظر، فاللعب كان يبدأ مع شروق الشمس ولا يطلب الكبار من الأطفال شيئا غير أن يتركوا المنزل ويلعبوا بعيداً حتى تنتهي السيدات من تحضير الغذاء.
تجمعنا تحت تكعيبة العنب نتحسر على مخزون البُمْب الذي نفذ وزاد من كآبتي أن البنات لا يردن اللعب في الطين حتى لا تتسخ الملابس الجديدة، فجلسنا أنا وبهيجة نبحث عن طريقة ننقذ بها يوم العيد....
قالت عزيزة:
- نروح البلد نجيب بمب!
صرخت بهيجة في وجهها وبرطمت بكلمات لم ألتقط منها إلا جملة "جاك شلل في فم المعدة!!!" وأدركت دون أن أفهم معنى الكلمات بالضبط أنها سبة فتدخلت لأهدئ النفوس:
- فهموني بس...إيه المشكلة لما نجيب بمب؟ هي البلد بعيدة؟؟
فردت محاولة التحدث بلهجتي القاهرية
- لأ ما بعيداش بس احنا بنات لوحدينا!
وهنا "نقح" علي العرق الثوري وحضرت أرواح جداتي وقلن بصوت واحد على لساني:
- و إيه يعني؟؟!! احنا بميت راجل ونقدر ناخد بالنا من نفسنا ، إحنا مش صغيرين! أنا ح اتم اتناشر سنة كمان سبع شهور!
لم أتح لأحد فرصة للجدال وتوجهت نحو باب الحديقة فسرن خلفي.
ذهبنا إلى "البلد" واشترينا البمب والملبس ثم عدنا إلى المنزل بسلام لم يدم كثيراً، فعندما دخلنا وجدنا وجه عمتي محتقنا وصرخت في وجوهنا:
- أنا قلبي وقف!!! إزاي تخرجي من غير ما تقولي؟إنت لسه صغيرة! كان ممكن تتوهي ولاّ تتخطفي!! وانتوا بقى لكم معايا حساب تاني!!
بدأت البنات في البكاء ووقفت أنا شامخة متحدية أدافع عن حقوق المرأة وحق الأطفال – الآخرين طبعاً مش أنا- في الحصول على البمب يوم العيد... وجاءني صوت زوج عمي من الداخل ليزدني قوة وثقة بالنفس...
- فيه إيه؟!! إيه الزعيق ده كله؟! ما تنكديش ع العيال يوم العيد! خلاص ماجراش حاجة ، ماهي رجعت بالسلامة وبعدين كان معاها بنات زينب وهم عارفين البلد كويس..
وقبل أن ينتهي من الجملة كان قد وصل إلى باب غرفته ورأنا مصطفات أمام عمتي وفي لمح البصر اختفت النظرة الحانية من عينيه وأكاد أجزم أنني رأيت شراراً حقيقياً يخرج منهما!
- إنتي خرجتي كده؟
- كده ازاي يعني؟
- نزلتي السوق بقميص النوم ده؟؟! إنتي فاكرة نفسك عيلة صغيرة؟؟!
(وبعدين بقى... صغيرة ولاّ مش صغيرة!؟ ما ترسوا على حل... وبعدين ايه علاقة ده بقميص النوم..)
- وفيها ايه يعني؟ ماله قميص النوم؟؟!!
- فيها ايه؟! طيب تعالوا بقى!
ودخل غرفته وأحضر "عصاية" لم أكن قد رأيتها من قبل وعلا صراخ البنات ولا أتذكر شيئاً بعد ذلك غير صوت "العصاية" في الهواء ثم على جسدي.
عرفت فيما بعد أن اسمها الملعون هو "الخرزانة" وظللت أكرهها ولا أطيق سيرتها طوال حياتي.
وفي تلك الليلة سمعت من خلف باب حجرتي - التي حكم علي بالحبس فيها حتى نهاية اليوم- كلمات جديدة على مسامعي وجمل ظلت تؤرقني طوال سنوات مراهقتي: "البنت كبرت وجسمها اتدور بس لسه مخها صغير... اللي يشوفها يفتكرها عندها 17 سنة... ربنا ستر... البنات دول هم!"
أما قميص النوم فرميته في سلة المهملات! ومنذ ذلك اليوم لم تعرف الفساتين والجونلات طريقاً لدولابي لفترة طويلة، وكنت أتأمل فاترينات الملابس الداخلية سرأً وفي حرصٍ حتى لا يدرك أحد أنني في بعض الأحيان أحن إلى أنوثة دفنتها وهي في طور التكوين.
***
منذ عدة أيام ذهبت مع زوجي لزيارة عمتي. تذكرنا طفولتي بأحداثها المضحكة المؤلمة ... تذكرنا رفضي أن أعامل كطفلة ورفضي للسيطرة من أي نوع وفرض آرائي على بقية الأطفال ومشكلة شهيتي المفتوحة دائما و شعري المقصوص كالأولاد ... ومن ضمن ما تذكرنا واقعة الخرزانة الشهيرة فضحكنا وعاتبت عمي مشاكسة:
كانت حتة علقة! مانساهاش! أنا يا عمو تضربني؟؟ وبالخرزانة كمان؟! ده انا حتى ماكنتش اعرف إسمها لحد اليوم ده!
كف عمو عن الضحك وظل يؤكد لي أنه لم يضربني "أنا كنت بارزع الخرزانة جنبك بس لكن ما ضربتكيش "
- ........
- طيب وبهيجة؟ وبقية البنات؟
- ضربتهم طبعاً عشان أخوفك وعشان بهيجة أكبر منك وكانت عارفة انك مايصحش تنزلي البلد بقميص نوم عامل كده!
- إنت متأكد انك ما ضربتنيش خالص يا عمو؟
- طبعاً متأكد!
في مساء ذلك اليوم ارتديت قميص نومي المفضل، أبيض، حريري، شفاف، مزين بزهور وردية صغيرة. وقفت أمام المرآة وعلى وجهي ابتسامة سلام لم تدم طويلاً، فبمجرد أن رأيت ظل جسدي خلف القماش شعرت بلسعة الخرزانة أسفل قدمي.